الأحد، 19 مارس 2017

القضبان





كانت خلف  قضبان .. ليست قضبان زنزانة .. .. بل قضبان  بستان رائع الجمال .. حيث تترقرق قطرات الندى على أوراق الأشجار والزهور. . و يفوح شذاها بعبير ينشرح له الصدور . . و الطيور تغني و ترقص على غصون الأشجار .. والفتيات الصغيرات تلعبن و تمرحن مع بعضهن البعض ... و الفراشات ذات الألوان الباهية الجذابة ترفرف وتحلق هنا وهناك . رأيتها .. فتاة صغيرة جميلة  .. البراءة تكسو وجهها ..  عذبة كما  أنهار الجنة .. لطيفة كالهمس ... حانية كالنسمة ... ساحرة البسمة ..تخلب العقل والوجدان .. تملئ الحياة نورا ونهارا حين تراها  .. تسحر القلب حين  تسمع صوتها الحانى العذب الرقيق .. تبدوا من اول وهلة كالملاك الحزين حين يعزف على فيتارة الحياة .
 كانت الطفلة الصغيرة وحيدة وحدة العابد فى محراب الحياة ..   تقف بجانب احدى الشجيرات  ..وكانما تتعمق في حياتها .. تائهة في أفكارها وخيالها ..تهمس فى بعض الاحيان بالحانها واغانيها الخاصة ..واوقات أخرى غارقة في أعماق خيالها والصمت.
 ابتسمت لي الطفلة الصغيرة ابتسامة لطيفة من وراء ذلك القضبان عندما تنبهت لى .. فنظرت لى  بابتسامة ساحرة .. ابتسامة لن أنساها  أبدا .. هزت  قلبي ووجدانى .. سحرت عقلى وكيانى ..   فابتسمت لها  واقتربت اكثر من القضبان .. فجاءت مسرعة تقترب مني والقضبان يحول بيننا .. و قدمت لي بيدها الصغيرة  وردة وردية اللون  جميلة كما خداها الناعمتان. ووقفت تنظر لى مبتسمة متأملة كما لو تعرفني منذ سنين.. فأخذت الوردة من يدها. . ووضعت يدها الصغيرة في راحة يدي وربت عليها حتى شعرت الطفلة الصغيرة الجميلة بالمودة و الاطمئنان .
 رأيت ثم رأيت عن قرب .. تلك العينان العسليتان الساحرتان الجميلتان .. وعيناها تتألق من وميض يسطع سحرني وحير عقلي و ذهني .. .. وسلبني تفكيري واسرنى فى كينونتها الساحرة الغامضة .. ولكن سرعان ما سحبت يدها من يدي عندما سمعت دعوة عميقة غليظة من اعماق ذاك البستان يدعوها للابتعاد عن ذلك القضبان و العودة  .. عادت الفتاة الصغيرة مثل الملاك الحزين، تبتعد بقدميها النحيلتان في بطء وخطوات ثقيلة ..  القدم تلو القدم .. والخطوة بعد خطوة .. و الدموع تترقرق في عينيها البريئتين.. ولكن  بعد خطوات قليلة توقفت .. والتفتت بجسدها النحيل ونظرت لي .. ورفعت يدها ملوحة لى مودعة .. وجرت بعيدا حتى اختفت من أمام عيني. .. ظللت بجوار قضبان البستان ملاصقا له.. لا أعرف كم من الوقت على مر وأنا واقف في مكاني لا ابرحه ؟!! .. ولكنى ظللت واقفا لعلى أرى تلك الطفلة الجميلة مرة أخرى. تحركت ببطء وأنا أسير بجوار قضبان الحديقة الغامضة. . وبداخلي رغبة في هدم واختراق ذلك الحاجز الأعمى الأصم _ الأبكم. . أسير بجوار القضبان  وأنا مازلت أفكر في تلك الفتاة البريئة الجميلة .. والحيرة تملكت قلبي ومشاعري تجاهها .. هذه المشاعر الخفية التي توغلت بداخلي وأسرت قلبي وفكري ..ذلك الشعور الغريب والذى اخترق أعماق قلبي وروحي .. اهى مشاعر الرحمة والعطف التي تمتلكت قلبي؟ أم أنها مشاعر الأبوة الحانية ، التي تمتلكتنى واغرقتنى معها ؟
 وفجأة .. توقفت .. تسمرت قدمي .. تملكتني الدهشة مما رأيت .. فقد رأيت بوابة قديمة مغلقة بالسلاسل والأغلال.. مما دعاني للريبة والتساؤل والتأمل والتفكير ..ولكن ما لفت انتباهي أكثر إذ بجوارها لافتة صغيرة متربة .. كشفت لي الحقيقة وعرفتني وافهمتنى  ما يحدث فى ذلك البستان . .نعم لقد وضح الأمر من تلك اللافتة  فهذا البستان الغامض ما هو إلا دار لرعاية الأيتام ..لقد اخترق قلبي مشاعر لا أعرف لها معنى ولا تفسير ..إنها   مزيج من الفرح والحزن .. السعادة والأسى .. من البهجة والألم .. إنها تلك الحقيقة التي  أشرقت وأزالت الضباب عن عيني وقلبي. .  وأطلقت ينابيع الرحمة بداخلي .. وأظهرت مشاعري .. تلك المشاعر الكامنة في قلبي. .إنها مشاعر الأبوة والرحمة .. العطف والحنان ..الخير والشفقة ..
و منذ تلك اللحظة .. ومنذ ذلك الحين .. ألعب مع طفلتي الجميلة البريئة  ومع بقية الأطفال .. نطير في سماء الحياة كما الطيور، التي تحررت من الأسر وقيوده .. نحلق في سماء الحرية .. ومازلنا نلعب ونمرح حتى الآن سويا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق